المستشار توفيق وهبة يكتب:العقيدة في فكر العقاد
يرى العقاد أن الأخلاق الصالحة نفس صالحة قادرة على التلقى والأداء ويضع معيارا للرجوع إليه فى جميع الأحوال الخلقية وهو صحة النفس وصحة الجسد على السواء ومعنى هذه القدرة على الامتناع ورد النفس عن بعض ما تشاء وهذا قبل كل شىء هو مصدر الجمال فى الأخلاق مصدره أن القوة النفسية أرفع من القوة الآلية مصدره أن يتصرف الإنسان كما يليق بالكرامة الإنسانية ولا يتصرف كما تحمله القوة الحيوانية أو القوة التى يستسلم لها استسلام الآلات مصدره أن يكون الإنسان سيد نفسه وأن يعلم أنه يريد فيعمل أو يمتنع عن العمل
إن المجتمع قد يملى على الانسان مايليق وما لايليق ولكنه لايغنيه عن هذا الضابط الذى تناط به جميع الأخلاق كما تناط به حاسة الجمال لأنه دليل على صحة التكوين وخلو النفس من الخلل والتشويه ومصدر الأخلاق الجميلة عند العقاد هو ( عزم الأمور ) كما سماه القرآن الكريم وهو مصدر كل خلق جميل حثت عليه شريعة الإسلام وعزم الأمور مأخوذ عن الأمر : عقد قلبه على إمضائه أو عزم بمعنى الأمر واللزوم .
وقد وردت عبارة ( عزم الأمور) ثلاث مرات فى القرآن الكريم , قال تعالى
: { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }وقال تعالى : { يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ }فالشخصية ترتقى حسب الاستعداد للتبعة ومحاسبة النفس على حدود الأخلاق وليس للتفاوت فى جمال الخلق مقياس أصدق من هذا المقياس ولا أدعم منه فى جميع الحالات وفى جميع المقابلات بين الخصال المحمودة أو بين أصحاب تلك الخصال
وملكات العقاد العقلية لا تطغى على ملكاته الروحية بل هو يلائم بينها بالقسطاس الدقيق ولعل أول ما يبدو من ملكاته الأخيرة نزوعه القوى نحو المثل العليا فى الفضائل النفسية والمزايا الفكرية فهو لايقيس الحياة الصحيحة بمقياس المادة والجسد وإنما يقيسها بمقياس الروح ومقاصدهما المثالية .
ونراه فى كتاباته الإسلامية بأخذ موقفا ثابتا إزاء معرفة الحاقائق الكونية يلتحم فيه بموقف الصوفية إذ كرر القول كثيرا بأن الإنسان لايستطيع إن ينفذ عن طريق حواسه وعقله إلى معرفة الحقائق الكونية فهما لا يطلعانه على شىء سوى أوصاف تلك الحقائق وأعراضها … أما كنهها الذاتى فأنه يتوارى عنها جميعا ومع ذلك فهى موصولة بالإنسان بكل ذرة من ذات عقله وهى صلة رمز لها العقاد بما سماه ( الوعى الكونى ) وهو وعى ينبع من الوجدان لا من الإدراك الحسى ولا من الفكر العقلى ومن أجل ذلك كان ما قاله الفلاسفة عن الكون وعن الذات العلية مدخولا وينبغى رفضه لأنهم يعتمدون فى أقوالهم وآرائهم على العقل لا يستطيع النفوذ إلى الحقائق الكونية المطلقة إنما الذى يستطيع ذلك الوجدان فهذا الذى يمكنه أن يتغلغل فى الوعى بحقائق الكون وأن يتصل بالذات الإلهية مستجليا صفاتها الربانية
الله فى فكر العقاد :
يقول العقاد : ان رأينا فى مسألة وجود الله مسألة وعى قبل كل شىء فالإنسان له وعى يقينى بوجوده الخاص وحقيقته الذاتية ولا يخلو من وعى يقينى بالوجود الاعظم والحقيقة الكونية لأنه متصل بهذا الوجود بل قائم عليه .
والوعى والعقل لايتناقضان ,وإن كان الوعى أعم من العقل فى إدراكه لأنه مستمد من كيان الإنسان كله , ومن ظاهره وباطنه وما يعيبه هو وما لا يعيبه والوعى أهم من العقل المجمل وأعمق منه وأعرق فى أصله ووجوده مع الحياة الإنسانية من نشأتها الأولى والوعى الكونى المركب فى طبيعة الإنسان هو مصدر الإيمان بوجود الحقيقة الكبرى التى تحيط بكل الوجود ونحن إذا رجعنا إلى تاريخ الإيمان فى بنى الإنسان وجدنا ان اعتماده على الوعى الكونى أعظم جدا من اعتماده على القضايا المنطقية والبراهين العقلية وأنه من كل يقين بنائى من جانب التحليل والتقسيم والبراهين جميعا عند العقاد لا تغنى عن الوعى الكونى فى مقاربة الايمان بالله والشعور بالعقيدة الدينية
ويقول العقاد : فالفكرة الإلهية فى الإسلام ( فكرة تامة ) لايتغلب فيها جانب على جانب ولا تسمح بعارض من عوارض الشرك والمشابهة ولا تجعل لله مثيلا فى الحسن ولا فى الضمير بل له ( المثل الأعلى ) و ( ليس كمثله شىء ) فالله وحده لاشريك له ( ولم يكن له شركاء فى الملك ) ( وتعالى الله عما يشركون ) (وسبحانه عما يشركون ) والمسلمون هم الذين يقولون ( ماكنا لنا أن نشرك بالله ) ( ولن نشرك بربنا أحدا ) .. ويرفض الإسلام الأصنام على كل وضع من أوضاع التمثيل أو الرمز أو التقريب ولله المثل الأعلى من صفات الكمال جميعا وله الأسماء الحسنى فلا تغلب فيه صفات القوة والقدرة على صفات الرحمة والمحبة ولا تغلب فيه صفات الرحمة والمحبة على صفات القوة والقدرة فهو قادر على كل شىء وهو عزيز ذو انتقام وهو كذلك رحمن رحيم وغفور كريم قد وسعت رحمته كل شىء ويختص برحمته من يشاء وهو الخلاق دون غيره ( وهل من خالق غير الله )فليس الإله فى الإسلام مصدر النظام وكفى , ولا مصدر الحركة الاولى وكفى ولكن الله ( خالق كل شىء ) و ( وخلق كل شىء فقدره ) و ( أنه يبدا الخلق ثم يعيده ) و ( هو بكل شىء عليم )
الصوفية في رأي العقاد :
يتحدث العقاد عن الصوفية وقربهم من الله سبحانه وتعالى فيقول يختلف المذهب الصوفى باختلاف مزاج الصوفى وتكوينه فإذا غلب عليه الشعور طلب سلام النفس بالزهد والتخلى عن العلاقات واستراح إلى سكينة التسليم وإذا غلب عليه العقل والبحث طلب سلام النفس من طريق المعرفة التى ترفع النقائض وتجمع الخواطر إلى وحدة يطيب للعقل أن يسستقر عليها وهؤلاء هم الذين يقولون مع معروف الكرخى : إن التصوف هو معرفة الحقائق الإلهية وكثر فيه الاشتغال بالفلسفة وتأويل مذاهبها , ولكنهم ينقلونها من الفكر إلى الشعور ويحاولون أن يحسوها كإحساس المرء بالكائنات التى يتعلق بها الحب ويشهد عليها الجمال ولكل فكرة تؤمن بها الصوفية تنطوى فى فكرة واحدة أصيلة شاملة لكل ما عداها وتلك هى بطلان الظواهر وقيام الحقيقة فيما وراءها
وهذا الذى قاله العقاد عن الظاهر والباطن عند الصوفية ليس على إطلاقه فالصحيح أن أهل التصوف الحق يعملون بالظاهر والباطن والظاهر هو العمل بالكتاب والسنة والباطن هى المقامات والأحوال التى يتقى فيها الصوفى للوصول إلى الله ويجب أن يوافق الباطن الظاهر لأن كل ظاهر خالف الباطن فهو باطل فمن لا يعرف الوضوء لا تصح صلاته ومن لاينوى الصيام لا يصح صومه يقول الامام الشعرانى رحمة الله من لايعمل بالكتاب والسنة فلاتسمعوا له حتى إن طار فى الهواء أو مشى على الماء .
وينتهى العقاد إلى النتائج التالية :
- إن التوحيد هو أشرف العقائد الإلهية وأجدرها بالإنسان فى ارفع حالاته العقلية والخلقية .
- إن الاله ( ذات ) ولا يسوغ فى العقل أن براه غير ذلك .
- كل شرط يذهب إليه الذاهبون لقيد الذات الإلهية بصفة من الصفات المعهودة لدينا فهو شرط قائم على غير اساس
هنا نعلم أن الدين لم يكن أصدق عقيده وكفى بل كان كذلك أصدق فلسفة حين علمنا أن الله جل وعلا { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } .
فكل ما نعلم أنه جلا وعلا كمال مطلق وإن العقل المحدود لايحيطه بالكمال المطلق الذى ليست له حدود وليس لهذا العقل أن يقول للكمال المطلق كيف يكون وكيف يفعل وكيف يريد وخلاصة الموضوع أن العقيده الدينية التى يدين بها العقاد لا ترتكز على الحواس والعقل لأن الحواس والعقل لاكفيان فى الوصول إلى الحقيقة الكونية الكبرى وذلك لأن الحواس تدرك ولا تعرف والعقل يبرهن ولا يعرف والحقيقة الكونية أكبر من أن تدرك بالحواس وأعمق من أن يبرهن عليها بالعقل ولكن السبيل إلى معرفتها هو الوعى الكونى والوعى الكونى هو الذى يجعلنا نحيا هذه الحقيقة الكونية ونعيش معها وننفذ إلى اعماقها لأن الموجودات كما يقول العقاد غير محصورة فى المحسوسات ومن الواجب أن نسلم بقيام موجودات لاتحيط بها الحواس والعقول لأن إنكارها جهل لا يقوم عليه دليل ولأن وجودها ممكن وليس بالمستحيل
منهج العقاد فى مجال الفكر الإسلامى :
يقول العقاد فى كتابه التفكير فريضه إسلاميه من مزايا القرآن الكثيرة مزيه واضحة يقل فيها الخلاف بين المسلمين وغير المسلمين لأنها تثبت من تلاوة الآيات ثبوتا تؤيده أرقام الحسابات ودلالات اللفظ اليسير قبل الرجوع فى تأييدها إلى المنافسات والمذاهب التى قد تختلق فيها الاراء .
وتلك المزية هى التنويه بالعقل والتعويل عليه فى أمر العقيده وأمر التبعة والتكليف وفريضة التفكير فى القرأن الكريم تشمل العقل الإنسانى بكل ما احتواه من وظائف بجميع خصائصها ومدلولاتها فهو يخاطب العقل الوازع والعقل المدرك والعقل الحكيم والعقل الراشد ولا يذكر العقل عرضا مقتضبا بل يذكره مقصورا مفصلا على نحو لا نظير له فى كتاب من كتب الأديان والعقل الذى يخاطبه الإسلام هو العقل الذى يعصم الضمير ويدرك الحقائق ويميز بين الأمور ويوازن بين الأضداد ويتبصر ويتدبر ويحسن الافكار ويندب الإسلام من يدين به إلى مرتبة فى التفكير أعلى من هذه المرتبة التى تدفع عنه الملامة أو تمنع عنه المؤاخذة فيحتسب له أن يبلغه بحسه ورشده والإسلام لا يقبل من المسلم أن يلغى عقله ليجرى على سنة ابائه وأجداه ولايقبل من أن يلغى عقله خنوعا لمن يسخره باسم الدين فى غير مايرضى العقل والدين ولايقبل من ان يلغى عقله رهبة من بطش الأقوياء وطغيان الأشداء ولا يكلفه فى أمر من هذه الأمور شططا لايقدر عليه إذ القرآن الكريم يكرر فى غير موضع أن الله لا يكلف نفسا ما لا طاقة لها به و لايطلب من خلقه غير ما يستطيعون
قال تعالى { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } . وقال : {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } . ويرى العقاد أن العلم فى اإسلام يتناول كل ما يوجد فمن الواجب أن يعلم فهو علم أعم من العلم الذى يراد لأداء الفرائض والشعائر لأنه عبادة أهم من عبادة الصلاة والصيام إذا كان الخير عبادة لله أن يهدى الإنسان إلى سر الله فى خلقه وأن يعرف حقائق الوجود فى نفسه ومن حوله ولهذا قال النبى صلي الله عليه وسلم :
” فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد ” وقال ” من خرج فى طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع ” وقال العلماء ورثة الأنبياء ” والعلم الذى أرشد اليه القرأن الكريم هو جملة المعارف التى يدركها الإنسان بالنظر فى ملكوت السموات والأرض وما خلق من شىء ويشمل الخلق هنا كل موجود فى هذا الكون ذى حياة أو غير ذى حياة قال تعالى { أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ}
وموقف الإسلام من العلم أو من العلوم عامة يتبين من موقف علمائه المجتهدين فى كل حقبة من تاريخه الذى تعاقبت به الأجيال ولم يخل تاريخه قط بين المشرق والمغرب من أئمة مجتهدين استمدوا حرية الفكر من ينبوع تلك القوة الحيوية التى لا تستنزفها المحن والطوارق فحفظوا رسالة هذا الدين ولافرق بينها وبين رسالة العلم فى مقاصده وأوجبوا على المسلم أن يتعلم حيث وجد العلم وأن ينظر إلى الحكمة كأنها هى ضالته يعنيه أن يبحث عنها ويجدها واينما وجدها فهو أحق بها كما تعلم من رسول الله .
ويتسأل العقاد هل يتفق الفكر و الدين وهل يستطيع العصرى أن يقيم عقيدته الإسلامية على أساس من التفكير والجواب على السؤالين بكلمة نعم .
نعم يتفق الفكر والدين ونعم يدين المفكر بالإسلام وله سند من الفكر وسند من الايمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق